نائـــــح الطلــــح
 
الأحد، ١١ مارس ٢٠٠٧
كابوس اليقظة

جلس الصديقان يتحاوران في أمور كثيرة يبثان بعضهما حزنهما .. و يتشاركان الأحلام و الأمال و الطموحات و يسبقان الزمان و يسبقهما .. يتناوبان الحديث عن حياتهما .. و ما يعوق أحلامهما التي ولدت في عقولهما ان تكون حقيقة ينعمان فيها.. كانا يتمنيان أن يطرق بابهما طارق فيسألانه من أنت ؟؟ فيجيب .. أنا مستقبلكما جئت أرحمكما من عناء التفكير و طول الأمل .. فإن كشفت عن وجهي شقيتما أو سعدتما
فينقطع بهما الخيال .. و يفيقا على الواقع فيقولا لبعضهما ..دع الأيام تفعل ما تشاء
سأل سائل منهما .. ما هذة الصورة التي ملأت جدار غرفتك ؟؟
فأجاب المجيب .. هذا أنا
قال الأول : أحدثك عن الصورة .. ذلك السواد الذي يتوسطه قنديلا
قال الثاني : أرأيت ذلك السواد حول القنديل .. تلك هي نفسي قد ملئت بالأسى و الحزن و الهم و لا شيئ سواهم ..إن هذا السواد يا صاحبي هو حصاد ما جنيت في الدنيا و نتاج ما صنعت يدي .. إن هذا السواد أنقاض أحلامي التي شئتها على مر السنين فحطمتها أمواج الأيام العاتية فما تبقى منها سوى هذا القنديل الصغير
قال الأول : سواد !! و قنديل !! قبل أن أسألك عن الصورة لم أرى فيها سوى السواد الذي يغمرها .. فتلك هي نفسي ليس فيها إلا السواد و لعل سواد عيني من بعض سواد نفسي .. ألا ترى ما نحن فيه لقد تكسرت كل أضواء الشوارع .. لم يعد في المدينة نور ليبصر الناس بعضهم .. فهم يتخبطون .. لقد سرقت أحلامهم و نهبت عقولهم .. انهم جميعا يرون أن النور صار أمرا خارقا لم يعتادوه .. انهم لا يبحثون عنه الا ليروا حجرات نومهم و غرف طعامهم حتى ان منهم من اذا اعتاد هذه الأماكن صار يبيت يسأل نفسة بأي شيئ تفيده عيناه كما قال الشاعر
و ما نفع أخي الدنيا بناظره
إذا استوى عنده النور و الظلم
قال : يا صاحبي .. إن كان يسعدك قنديلك هذا .. فلا تنظر إلي نوره فهو مع هبات الرياح سيزول فأعتد أن ترى من غيره أو اغلق عينيك حتى تقول انك انت من أغلقها ..قال صاحبه : يا صاحبي أنت مسرف في التشاؤم .. لقد أخبرتك أني أرى في هذا القنديل بقية أحلامي فأنظر إليها كم هي صغيرة .. إنها لا تتجاوز كفاف العيش .. و زوج يرزقني بها الله العفاف .. و طفل أغرس فيه حبات الحنان و أعلمه ما علمتني الدنيا لعلي ألقي فيه بذرة يخرج عنها دوحة يستظل بها الأخرون انها ليست أحلام يتغير بها الكون و لا أمال سأنحت الصخر لتحقيقها إني فيما ذكرت لا أتمنى سوى أدميتي و ما زلت متمسكا بها
قال صاحبه : أتريد أن تتزوج ؟؟!! فماذا تملك لهذا ؟؟ .. أتظن أن حبيبتك ستصبر على حالك أكثر من ذلك ؟؟ .. يناديها كل يوم ألف صوت يكسر ما بينك و بينها .. يا صاحبي إن كنت تعتقد أن رباط الحب بينكما متينا .. فأعلم أن الفقر و العمر الذي يمضي و أهلها الذين يخشون ضياع عمرها كلهم جرذان تقرض ذلك الرباط .. و عندما ينقطع الرباط ستنساك و تتهمك بالتقصير .. و أنك أنت من أضعتها .. يا صاحبي .. ليس في زماننا عفراء
قال : عفراء تلك عشقت ابن عمها عشقا لم يعد بيننا الآن .. كانت ترى فيه الرجل و الحبيب و درعها من صروف الدهر .. فما كان من الدهر الا ان فرقهما .. سافر ابن عمها لطلب الرزق و حينما طال غيابه تقدم أحد الميسورين لخطبتها .. فدفعها أبوها له و تزوجها .. و عندما عاد ابن عمها و علم بأمر زيجتها قال انه لا يريد من الدنيا سوى ان يرى عفراء .. فتلصص غياب زوجها و ذهب ليراها فلما رآها لم يتعاتبا أو يتشاكيا فلم تكن إلا النظرة المتعطشة المتلهفة بين حبيبين حال الزمان بينهما .. و بعدها سار ذلك الرجل في البراري و شاع أمره بين الناس أنه جن .. حتى مات .. و علمت عفراء بأمره فأستأذنت زوجها في أن تندبه حتى لا يقال انها سبب موته .. فتفهم زوجها ما تريد .. و أذن لها .. فندبته يومين و ماتت في الثالث من وطأة الألم لفراقه
فقال صاحب القنديل : إليك عني يا رجل .. كفاك من هذا الحديث فما انت و حديثك إلا بعض سواد الصورة
ظل صاحب القنديل هذا يسعى في دنياه سعي الفهد وراء فريسته .. لا يمر بباب الا طرقه .. كان يصارع الأمواج بذراعيه و ينتعل الأشواك في دربه .. كان صبره كالجبال الشوامخ لا تقتلعها رياح و لا أعاصير .. كان يستلهم عزيمته من معان نفسه السامية فقلبه ملئ بالحب و نفسه يخرج من حناياها شعاع أمل و عقله يرى المستقبل تتفتح منه الزهور لتفوح منها رائحة العبير .. كان شديد الشح في راحة نفسه و كأنه يسترضي الدهر حتى يرأف بحاله و لكن الدهر يعبأ به و يغير عليه بجحافله .. و هو لا يملك سيفا و لا درعا لا يملك سوى ذراعين لا يسترهما حتى الثياب و لكن لا سبيل لدفع الضر عدا مواجهة هذه الجحافل التي تحول بينه و بين أرض أحلامه التي فيها أدميته فإن لم يبلغها فلا ضير ان يقضي غير أسف على حياته لأنه – في نظره – لم يعد إنسانا
و في خضم هذة المبارزات التقى صاحب القنديل مع والد حبيبته .. يذكره بالعهد الذي بينهما و انه و ان طال الوقت به .. في اتمام عهده فإنه سيظل يحارب حتى يوفر مستلزمات الزواج .. فأجابه والدها : يا بني لقد أتيت من سنين و خطبت ابنتي و منذ ذلك الوقت و البنت كالبضاعة الكاسدة .. أتراها لو انها أختك .. أكنت تطيق أن تتركها معلقة بين سماء و أرض ؟؟ .. يا بني إني أحلك من كل عهد بيني و بينك و لتعد البنت حرة لتنال نصيبها من الدنيا .. و أرضى يا بني بقسمة الله
كانت سهام والدها عليه أشد من سهام الدهر .. و لكن إن كان هو يجد العذر لنفسة فلابد أن يجد عذرا للأب و ابنتة .. حاول الفتى أن ينقذ هذا الحلم من أن يموت و يذهب أدراج الرياح فكثف جهده للبحث عن عمل أخر .. و مصدر للرزق .. و لم يترك موطأ إلا وطأه .. و لكن بلا جدوى لقد شعر صاحب القنديل أن وطنه لم يعد وطنة .. و أن الأرض قد ضاقت به على ظهرها .. و أن بطن الأرض يناديه ..إن الذين كانوا يعيشون على هذه الأرض منذ قرون لم يعانوا ما يعانيه أهلها اليوم إن أهل وطنه اليوم يتحكم فيهم شرذمة قليلة أذاقوهم البأس و الهوان .. و منعوا عنهم خير بلادهم ، فهم يطعمونهم فتات الخبز .. و هم راضون به فإن كان حال الناس من حوله هكذا .. ماذا يفعل هو ؟؟
لا شك أنه لابد أن يرضى أن يعيش مسلوب الأدميه .. و مسلوب الحقوق .. و أن يقدم فروض الطاعة و الولاء لمن يستبدون و يحكمون و لا يعدلون و يسرقون و ينهبون .......... أنتهى الأمرو أستسلم صاحب القنديل للسواد .. و رجع إلي غرفته
و نظر إلي صورة القنديل .. و إلي شهادتة العلمية التي حصل عليها في الحائط المقابل .. فأقترب من صورة القنديل فأزالها من على الحائط ثم أوى إلى فراشه يحاول أن يطوى همه في نومه فينسى الحياة لبعض الوقت .. كان في هذه اللحظة أشد الناس هما فتمنى أن يغمض عينية الآن و يفتحهما على سؤال الملكين .... كانت الدنيا تمر في ذاكرته بصور بشعة لا يطيقها خيال .. فهي تمر بخياله فتعصر عينيه فيفيضان دما !! حتى مر في بال قول الشاعر الذي عاش على هذه الأرض منذ زمن .. فترك وراءه أبياتا جسد فيها حاله و حال الكثيرين من بعده فقال
لحى الله عهد القاسطين الذي به
تهدم من بنياننا ما تهدم
إذا شئت أن تلقى السعادة بينهم
فلا تك مصريا و لا تك مسلما
سلام على الدنيا سلام مودع
رأى في ظلام القبر أنسا و مغنما
أضرت به الأولى فهام بأختها
فإن ساءت الأخرى فويلاه منهما
فهبي يا رياح الموت نكبا و أطفئي
سراج حياتي قبل أن يتحطما
قال الفتى في نفسه .. نعم و الله لم يبق لي من الأماني سوى الموت
فهبي يا رياح الموت هبي
و بينما هو على هذه الحال طرق باب غرفته طارق فقام و فتح له الباب فرأى رجلا غريب الهيئة يقدم له بعض الثمار الخضراء و قال له : هذه لك .. قال الفتى .. و ما تلك و من أنت ؟؟
قال الرجل .. تذوق هذه الثمار أولا .. فأكل منها فوجدها مرة كالحنظل فقال : ما هذا ؟؟ و من أين أتيت بهذه الثمار ؟؟ و من أنت ؟؟
قال الرجل .. هذه ثمار عمرك التي إستعجلت أن تقطفها أما أنا فقد جئت أحقق أخر أمالك .. و أنهي حياتك التى سئمتها .. أنا يا هذا
ملك الموت
و لكن قبل هذا لك عندي واحدة .. فعرض له الملك بعض صور مستقبله فقال .. أتعرف من هذه ؟؟ قال الفتى .. انها تلك الفتاه التى كنت خاطبها . قال الملك .. لا بل هي زوجتك ، و هؤلاء الأطفال هم عيالك ، و هذا البيت بيتك ، و هذا النعيم نعيمك
قال الملك .. فلا تذهب نفسك حرات على هذا .. لعلك تلقى عند ربك ما هو خير منه
قال الفتى : لا .. إن عملي في الدنيا قليل و لست أدري إن كنت صالحا أم طالحا ... أرجوك .. أرجوك .. أمهلني
أنت من إستعجلت .. و قد طلبت الرزق و كفاف العيش فما صبرت لهما .. و قد طلبت الموت و ما بين الموت و الحياة شعرة .. و الموت أقرب إليك من نفسك .. و إن دعوته لبى مسرعا ... قال الفتى : أستحلفك بمن بعثك أن تتركني أنعم بحياتي ، و ظل يسترجيه و يستعطفه و الملك يقول .. انه ليس أمري و إني لا أملك أن أدفعه عن نفسي
فبكى الشاب كثيرا .. فستنقضي حياته الآن .. و بعد أن علم أن الله ما كان ليضيع عمله و كده فيها و لكن قد فات الأوان
و فجأة .. طرق الباب
ففتح عينية مذعورا من ذلك المنام فلا يدري أكان كابوسا أم أنه حقيقة !!
فقام مسرعا إلي صورة القنديل و علقها مكانها مرة أخرى
posted by نائح الطلح ٧:٤٢ م  
 
0 Comments:
إرسال تعليق
<< Back to top

About me

  • نائح الطلح
  • مصـــــــر
My profile
-------------
--------
  • أمير العاشقين
  • حزمان
  • مش مقتنع
  • هو جعــاان
  • الجوهري
  • زهرة
  • حفار القبور
  • عايزة أتجوز
  • القطط العمياء
  • نقانق العقل
  • الفارس الأخير
  • بهية
  • خطوة عزيزة
  • سوسة المفروسة
  • بنت مصرية
  • بلو رووز
  • وشوشات
  • أحاسيس زجاجية
  • لو بطلنا نحلم نموت

  • Website Hit Tracking
    Who links to me?
    هيا تووت
    eXTReMe Tracker
    --------
    --------
    myprofile
    Name: نائح الطلح
    Home:
    About Me:
    See my complete profile


    previouspost
    هي
    جريمة في الحي الشرقي
    المساء
    الغيرة
    بين قلبي و عقلي
    الـــدواء القـــــاتــل
    عراق الشقاق
    مصارع الثيران
    يا قلبها ... عذرا


    myarchives
    فبراير 2007
    مارس 2007


    mylinks
    TemplatePanic
    Blogger


    bloginfo
    This blog is powered by Blogger.
    Blog designed by TemplatePanic.